الساعات

فِرديناند بيرتو تعيد تشكيل النابض الشعري

في أكتوبر من العام 2022، كشفت علامة كرونوميتري فِرديناند بيرتو عن ساعة كرونوميتري إف بي 3إس بي سي Chronomètre FB 3SPC، التي مثلت الركيزة الثالثة لمجموعاتها المستلهمة من إرث صانع الساعات الشهير في القرن الثامن عشر فِرديناند بيرتو، الذي تحمل المجموعة اسمه. خصوصاً أن ساعة FB 3SPC تشتمل على جميع العناصر الرئيسية للكرونوميترات البحرية، على غرار الإبداعات التي خرجت من الورشة التاريخية لفِرديناند بيرتو، ومن ضمن هذه العناصر النابض الشعري الأسطواني. في ما يلي مزيد من التفاصيل..

على عكس النوابض الشعرية الحلزونية المسطحة التي تعتبر أكثر شيوعاً من غيرها، ترتبط النوابض الشعرية الأسطوانية بشكل خاص بأجهزة ضبط الوقت الدقيقة المستخدمة في الرحلات الاستكشافية البحرية، وذلك نظراً لتوازنها واستقرارها. بيد أن استخدامها لا يناسب ساعات اليد، نظراً لحجمها وشكلها اللذين يمكن أن يؤديا إلى حدوث خطأ في قياس الزمن عندما تكون الساعة في الوضع العامودي. أجرت كرونوميتري فِرديناند بيرتو عمليات بحث وتطوير استغرقت ثلاث سنوات لابتكار ساعة FB 3SPC، فكانت ساعة اليد الأولى والوحيدة ذات النابض الشعري الأسطواني، التي تم اعتمادها رسمياً بشهادة الكرونوميتر من قبل الهيئة السويسرية الرسمية للكرونوميتر (COSC).

تكمن أصول ساعة Chronomètre FB 3SPC في الساعة العشرية No. 26، التي صُنعت في العام 1793 على يد لوي بيرتو، ابن شقيق فرديناند بيرتو وخليفته. كانت ساعة الجيب هذه كرونوميتر عالي الدقة مزوداً بنابض شعري أسطواني، وهي خاصية حظيت بتقدير كبير لدى لوي بيرتو، الذي طبقها مراراً في ساعات كان يعتبرها أفضل إبداعاته.

يتمثل أحد العوامل الرئيسية التي تحدد قدرة النابض الشعري على قياس الزمن بدقة، في كيفية تمدده (تنفيسه) عندما يتم إمداده بالطاقة عبر مسلسلة تروس الحركة، فالنابض الشعري الذي يتوسع بشكل مركزي، محافظاً على نفس مركز الجاذبية طوال فترة التذبذب، يكون أكثر استقرار من الناحية الميكانيكية، ويخضع لعوامل قلقلة أخف أثناء عمله، ومن ثمّ يكون أكثر موثوقية. أما النابض الشعري الذي يتمدد بشكل غير منتظم، بتباعد غير متسق بين لفافاته أو مع أنماط تمدد وانكماش غير متساوية، فيتسبب بتغير مركز الجاذبية، ما يؤدي بدوره إلى حدوث احتكاك في محاور التوازن، وبالتالي الإخلال بكامل إمكانيات قياس الزمن في الساعة، وخصوصاً عندما يشارف احتياطي الطاقة في برميل النابض الرئيسي على الانتهاء، ويبدي الميزان سعة منخفضة.

نظراً لشكله الذي يتكون من سلسلة من اللفافات المتطابقة تماماً، فإن النابض الشعري الأسطواني (أو الحلزوني) يتمتع بإمكانات للتمدد بشكل مركزي أكثر بكثير من النابض الشعري الحلزوني المسطح، وذلك أمر معلوم بالضرورة في صناعة الساعات. لكن ذلك صحيح في الوضع الأفقي فقط، عندما يكون محور النابض الشعري الأسطواني متعامداً على الأرض، أما في الوضع العامودي فيمكن أن تؤدي زيادة كتلة النابض الشعري الأسطواني، مقارنة بالنابض الشعري الحلزوني المسطح، إلى مضاعفة معدل الخطأ الكرونوميتري نظرياً. لكن من الناحية العملية، كان هذا يعني أن النوابض الشعرية الأسطوانية غير مناسبة للاستخدام في ساعات اليد، نظراً لأن مزية الكرونوميتر الخاصة بها لن تتجلى إلا إذا تم الحفاظ على الساعة دائماً في الوضع الأفقي.

في كرونوميتري فِرديناند بيرتو لم يعتبر ذلك على أنه طريق مسدود، بل كان ينظر له على أنه باب مفتوح على مناطق مجهولة تنتظر من يستكشفها. ويستذكر كارل-فريدريك شويفلي، رئيس ومؤسس كرونوميتري فِرديناند بيرتو كيف قيل له في البداية إنه سيكون من المستحيل الحصول على شهادة الكرونوميتر مع النابض الشعري الأسطواني، وكيف كان ذلك كلَّ ما كانوا يحتاجون إليه لقبول التحدي.

تكييف النابض الشعري الأسطواني لملاءمة ساعات اليد

صناعة الساعات الميكانيكية هي مهنة قائمة منذ قرابة 500 عام، وهناك معايير وعمليات ثابتة لكل جانب من جوانب معارف صناعة الساعات تقريباً، حيث تتاح مكتبات زاخرة بالبيانات والتحليلات حول أي موضوع يمكن تخيله، حتى في الأمور المقتصرة على فئة قليلة، مثل التركيب الكيميائي الأمثل للنابض الشعري، أو درجات التمدد الحراري للسبائك المختلفة.

ورغم كل هذه الوفرة الزاخرة من المعلومات، إلا أن الموضوع الوحيد الذي لم يُتطرق له كان يتعلق بمجال ظل مجهولاً وأربك فريق البحث والتطوير في كرونوميتري فِرديناند بيرتو، وكان يتجلى في السؤال عن كيفية تكييف النابض الشعري الأسطواني ليتلاءم مع ساعة اليد. كان الفريق يعلم أن هندسة النابض نفسه هي أهم جزء في المعادلة، التي من شأنها أن تنتج ساعة يد معتمدة بدقة الكرونوميتر وبنابض شعري أسطواني، لكن كل شيء آخر كان بمثابة لغز غامض.

أجريت الاختبارات الأولى في كرونوميتري فِرديناند بيرتو بنابض شعري أسطواني، مع منحنيات طرفية مصممة لهذا الغرض، بالرغم من عدم تجميعها بعدُ داخل الحركة. وقد كان أداء النابض الشعري المعزول يتفق مع جميع التوقعات، ولكن بمجرد تركيب النابض ضمن طوقه استعداداً لتثبيته ضمن الحركة، لاحظ الفريق أن النابض الشعري أظهر ميلاً للتمدد (التنفيس) بشكل غير متناسق، نتيجة لوجود كتلة إضافية تتمثل في الدبوس والطوق. كان الحل الوحيد الظاهر يتجلى في تقليل وزن الطوق، وإعادة توسيط مركز ثقل النابض الشعري.

وكما هي الحال في المعادلات الرياضية المتوازنة بدقة، فإن تغيير أحد العوامل يوجب تعديل عوامل أخرى أيضاً. وعلى هذا الأساس استلزم تقليل وزن الطوق إعادة تصميم المنحنيات الطرفية، ما أدى بدوره إلى تغيير  نقطة التعليق الداخلية للنابض الشعري، والتي تطلبت بدورها إعادة هندسة شكل الطوق نفسه، بحيث تحافظ نقاط التعليق الداخلية والخارجية للنابض الشعري على مقدار إزاحة زاوّية صحيحة في علاقتها مع بعضها البعض. استغرقت هذه العمليات أكثر من ثلاث سنوات من الدراسة الدقيقة والتجريب في هندسة النابض الشعري، فطوال ثلاث سنوات تمت محاكاة المنحنيات الطرفية للنابض الشعري، وتشييد أساس متين تقوم عليه ساعة Chronomètre FB 3SPC الجديدة.

Chronomètre FB 3SPC

مع ساعة FB 3SPC، كان لزاماً على فريق البحث والتطوير في كرونوميتري فِرديناند بيرتو البدء من الصفر، نظراً لندرة الدراسات المعمول بها في مجال تنظيم النوابض الشعرية الأسطوانية. وقد استعان فريق كرونوميتري فِرديناند بيرتو ببعض ملاحظات صانع الساعات فِرديناند بيرتو نفسه، والذي كانت تجاربه ومقايساته في صناعة الساعات جزءاً أساسياً في عمله، إلى جانب اعتماد فريق كرونوميتري فِرديناند بيرتو على النهج العلمي المتمثل في: وضع الفرضية ثم اختبارها ثم تكرار تحسينها.

يتطلب وضع خارطة طريق توضح كيفية الحصول على شهادة الهيئة السويسرية الرسمية للكرونوميتر (COSC) لحركة ساعة يد ذات نابض شعري أسطواني؛ اتباع خطوات دقيقة ومدروسة. ونظراً لعدم وجود منهجية متبعة تخص ضبط النابض الشعري الأسطواني والميزان، تتطلب كل ساعة FB 3SPC مكتملة لمسة خبير، ونظرة محترف، وخبرة واسعة. فالهدف النهائي هو الضبط الكامل لكلٍّ من: البنية الميكانيكية، وتوازن الطاقة، وأداء الكرونوميتر.

كان لسان حال النتائج خير بيان عنها، فاعتباراً من العام 2023، تحصل كل حركة يتم صنعها لساعة Chronomètre FB 3SPC على شهادة الهيئة السويسرية الرسمية للكرونوميتر (COSC) بشكل فردي. وقد أظهرت الحركات التي تم اختبارها بواسطة الهيئة في المتوسط معدلاً يومياً قدره 2.08 ثانية في اليوم، وهو معدل يقع ضمن نطاق متوسط الهوامش المثالي الذي تفرضه الهيئة، والذي يراوح ما بين -4 إلى +6 ثانية في اليوم. أما على أساس فردي، فيكون التباين اليومي بنسبة 80% في الحركات التي تم اختبارها، ليكون بمعدل بين -1 و+3 ثانية في اليوم، متخطياً بذلك معايير الدقة المتبعة في مختبرات الهيئة السويسرية الرسمية للكرونوميتر (COSC) بعامل 2.5.

وهكذا تشكل ساعة Chronomètre FB 3SPC احتفاء بإرث وروح صانع الساعات فِرديناند بيرتو الذي تحمل اسمه، سواء من ناحية تجسيد مبادئ علم صناعة الساعات الدقيقة، أو من ناحية توسيع آفاق عالم المعرفة الميكانيكية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى